في
بهو الفندق في الكويت، بينما الشيخ العوضي وأنا جالسين نناقش موضوع الحلقة التي
ستسجل في الغد، أقبلت عائلة، والشيخ صاحب كاريزما شاهقة، والناس يلتفون عليه كما
تلتف الفراشات حول الزهر في الرياض.. والعائلة معها فتاة على كرسي مدولب، وبجوارها
والدتها التي نادت الشيخ وهي تقول: 'إن ابنتي عائشة
من محبيك وتريد أن تراك عن قرب'، قفز
الشيخُ بهيكلِهِ الخفيفِ وروحِه الوثابة، وتبادل الحديث مع الأم، ثم عرّفني عليهم
بأدبٍ جم وعنايةٍ حادبة، وقدمني أفضل تقديم كمن يقدم شخصاً لشخصياتٍ شرَفية.
وكنت أراقب حركات البنت، فتاة وضاحة الملامح بابتسامةٍ قسريةٍ وتضيء عن
روحٍ مناضلةٍ ونفس قويةٍ، إنها تنقلك حالا من واقعك المعاش، إلى مساحات الأمل
والأنوار، القدرة الإنسانية الكامنة التي يودعها الله في البشر وهم لا يعلمون..
'عائشة' دليلٌ ساطعٌ على قوى الإنسان المذهلة، مع إرادةٍ تفلُّ
الفولاذَ في سبيل إثبات الذات في عالم لا يعترف إلا بأقوياء الروح والبدن والعقل..
وتعرف من الوهلة الأولى أنك أمام كشفٍ إنساني مجيد، أنك بمشهدٍ متسامٍ أقرب
للسماء.. أنك بحضرة العظمة الإلهية التي تنقلها أنفسٌ بشرية مختارة، فما نعتقد أنها
مصيبة حلـّتْ، إذا هي رسالة مقدسة يحملها لحمٌ بشري تدور في دمائِهِ قوةٌ مبثوثةٌ
من العزيمةِ الخالدة، وخيط نوارني يحملك لتتلمس كيف أنه يتدلى من قبة
السموات..
في لحظةٍ هزت 'عائشة' كل وجودي، وهي تصارع بيديها، وتهز
أمَّها وترمش بعيونها تحدث أمها بلغة تفهمها الأم كما يفهم الفصيحُ من الفصيح،
والأم السيدة سبيكة راشد الغيص، والحائزة على جائزة الأم المثالية في الكويت ( أقل
ما تستحق.) لا تنقل لنا فقط الكلام، بل تفوقت بطريقةٍ غامضةٍ أن تغرز شعور
عائشة في كامل وجداننا، وكأنها تعيد صياغة
كينونتنا القليلة أمام بنت تعتقد أنها حبيسة إعاقة، أنها مقيدة بكرسي، فإذا هي تأخذ
بيدك وتنقلك لفسوحات الحرية الروحانية، وإذا هي تـُنـَزَّهُ نفسـَكَ في متنزهات
الإنجاز الإنساني بمنتهى جلالِه.. إنها بنت، صحيح ليست مثل كل البنات، بل أنها
تتفوق على الكثير من البنات. 'عائشة الحشاش' قصة إنجاز
باهر، وأمها ملحمة إعجاز
ظاهر.
'عائشة الحشاش' مصابة بالشلل الدماغي من ولادتها، لأن الطبيبَ كان
يجب أن يتدخل بعمليةٍ قيصرية، وتأخره عن الإجراء سبَّب نقصاً مُخِلاً للأكسجين
عطـّل دماغ الطفلة وسبب لها الإعاقة الحركية المتلازمة.. ولكن حين قال الطبُّ
التشريحي والوظيفي إن العقلَ معطـّل، وأن لا فائدة تـُرجى أن يعمل دماغ الطفلة،
ونفض يدَهُ منها، كانت الأمُّ هناك، وفي قلبـِها وميضٌ ساطعٌ من أعماق قلبـِها،
وروحُها تصرخ بالرفض، ولم يكن رفضا غاضباً سلبياً، وإنما مشحوناً بثقةِ الأم
وحبِّها الأسطوري، وتعلمتُ ذاك اليوم، حين قرأت كتاب البنت عائشة (إعاقتي سرُّ نجاحي)*
لماذا كان يكررُ رسولـُنا الحبيبُ المصطفى: 'أمك، ثم أمك، ثم أمك'.
في تلك
اللحظة في بهو الفندق الكويتي أمام وجه عائشة
المبتسم، ووجه الأم المحجَّب الوقور
تكشفت أمامي معاني الوصية النبوية وكأنها مشعل قدسي أضاء ركنا في دهاليز الفهم
المعتمة.. الأم التي تحدّتْ الإعاقة، وتحدّتْ الطب، وتحدتْ الواقع.. وآمنتْ
بربِّها، وأنه أودع في الأمومةِ سِرّاً مكيناً لا تدركه إلا الأمهاتُ ويكون جاهزاً
لتحدي العالم مستعداً للوقوف وحيدا ضد ما تمليه الظروف. وحين أراد الأطباءُ أن
يغذوا الطفلة وريديا، قالت الأم: 'لا، بل سأرضعها من صدري، إنه لبنـُها.. من حقها'.
واستسلم الأطباءُ لإعصار الحب والثقة وهم يشفقون على ما سيصيب الأم من خيبةِ أملٍ
كبرى لأن البنتَ لا تستطيع وظيفياً تلقي صدرَ الأم وتعاني من عجزٍ معقـَّدٍ في
البلع.. وعندما اقترب صدرُ الأم.. رضعت الطفلة، واستلـَمتْ حقها الإلهي.. وبدأت أول
فصول المعجزة.
البنت عائشة الحشاس المدهشة، بطلتي اليوم، وكل يوم، هي في ربيعها
السادس العشرين، ملحمة مغامرات ملحمية تجاور الأسطورة مع الأم والرحلات حول دول
خارجية، وبحدب أبيها الذي توفي من القلب الذي أرهقه، فقالت عائشة: 'لما مات أبي..
ماتت الشمعة الوحيدة في منزلي'. والتفاف الأسرة والعمل الجماعي، وتحْمُلُ امتناناً
وحباً لا يمكن قياسهما لأخيها 'مشعل' الذي حالاً استلم دورَ الأب، والأخ والصديق..
وعائشة تتحدث عنه كما نتحدث عن بشر في صفات الملائكة..
إنها قصة معاناة،
قصة إنجاز، قصة فتاة، قصة أم، قصة أب، قصة أسرة.. قصة شخصيات ذكرتهن عائشة وقفن معها في أحلك
الظروف مثل السيدة 'منيرة المطوع'، والسيدة 'لولوة الغانم' سيدتان كبيرتان في
إنسانيتهما وحبهما وإنجازهما..
هل نسيت أن أقول لك شيئا عن عائشة؟ أكيد نسيت
الكثير، كيف تكفي سطورٌ لإيجاز ملحمة؟! الآن عائشة
تكتب وتقرأ بالعربية والإنجليزية،
والتشيكية، والسلوفاكية.. وحصلت على جائزة الألماس الأصفر من بنك برقان، وفازت في
مسابقة الرسم، وشاركت في بطولات دولية للعبة البوشيا.. وتكتب في 'العرب تايمز'
باللغة الإنجليزية.
وفي كل سطر بكتابها هناك الله، والشكر لله، وتقول:
'إن الله عوضني.. بل أشعر أنه كافأني أكثر من غيري'.. وسط آلامها الجسدية التي لا
يعلمها أحد، ولا تخرجها لأحد.. تشكر الله على نعمائه، وأجمل أوقاتها هي لما تكون
تؤدي الصلاة، وأروع موقف في حياتها لما أخذها أبوها لمكة المكرمة حين طلبت منه أن
يحقق لها أمنية العمرة، فإذا هو ينتزعها من الكرسي ويطوف بها يحملها على ظهره..
حينها، كانت أسعد بنتٍ لأسعد أب!
لا أستطيع أن أقف، فقلمي يسابق دقات
قلبي، ولكن عائشة تقول: 'ليس هناك فشل.. وإن حصل ما نتوهم أن الفشل هو النهاية، فالحقيقة أنه
نقطة البداية'.. البنت التي تقول: 'أنا وأمي أصبحنا روحين في جسدٍ واحد'.. البنتُ
التي أنجزت ما فوق الإنجاز، هي التي أخذتني في لحظةٍ من البهو الرخامي إلى مراقي
السماء!
إعاقتي سر نجاحي
عائشة حسين الحشاش