الصداقة والمودّة
لم يبخل الأدب العربي وتراثه في وصف القيم الإنسانية الحميدة ، وخصوصا تلك التي تدخل في صلب العلاقات الإجتماعية ، وفي حياة الناس اليومية ، وكذلك فعلت مراجع القيم والمأثورات الإسلامية ، وعلى رأسها القرآن والسنة النبوية ، التي جاءت ل""تُتمّم مكارم الأخلاق" ، كما قال الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم.
ففي المأثور العربي ، قالوا: إعلم أن المودة والأخوة والزيارة سبب التآلف ، والتآلف سبب القوة ، والقوة سبب التقوى ، والتقوى حصن منيع وركن شديد ، بها يمنع الضيم ، وتنال الرغائب ، وتنجع المقاصد. وقد منّ الله تعالى على قوم وذكّرهم نعمته عليهم ، بأن جمع قلوبهم على الصفاء وردها بعد الفرقة إلى الألفة والاخاء ، فقال تعالى (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا). ووصف نعيم الجنة وما أعد فيها لأوليائه من الكرامة إذ جعلهم إخوانا على سُررْ متقابلين .وقد سن رسول الله الإخاء وندب إليه ، وآخى بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وذكّرهم أهل جهنم وما يلقون فيها من الألم إذ يقولون فما لنا من شافعين ولا صديق حميم. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (الرجل بلا أخ كشمال بلا يمين).
وقالوا أيضا: خير ما اكتسب المرء الإخوان ، فإنهم معونة على حوادث الزمان ونوائب الحدثان ، وعون في السراء والضراء. ومن كلام علي رضي الله عنه:
(عليك بأخوان الصفاء فإنهم ... عماد إذا استنجدتهم وظهور)
(وإن قليلا ألف خل وصاحب ... وإن عدوا واحدا لكثير)
وقالوا: الصاحب للصاحب كالرقعة في الثوب ، إن لم تكن مثله شانته. و المال غاد ورائح ... والإخوان كنوز وافرة. وقال المأمون للحسن بن سهل نظرت في اللذات فوجدتها كلها مملولة سوى سبع قال: وما السبع يا أمير المؤمنين قال: خبز الحنطة ولحم الغنم والماء البارد والثوب الناعم والرائحة الطيبة والفراش الواطىء والنظر الى الحسن من كل شيء قال فأين أنت يا أمير المؤمنين من محادثة الرجال قال صدقت وهى أولاهن.
وأنشدوا في معنى ذلك:
(وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الرجال ذوي العقول)
(وقد كنا نعدهم قليلا ... فقد صاروا أقل من القليل)
وقال لبيد:
(ما عاتب المرء اللبيب كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح)
وقال آخر:
(إذا ما أتت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالا لزلته عذرا)
وقيل لإبن السماك: أي الاخوان أحق ببقاء المودةظ فقال الوافر دينه الوافي عقله الذي لا يملك على القرب ولا ينساك على البعد ، إن دنوت منه داناك وإن بعدت عنه راعاك وإن استعنت به عضدك وان احتجت إليه رفدك وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله.
وأنشدوا في المعنى
(إن أخاك الصديق من يسعى معك ... ومن يضر نفسه لينفعك)
(ومن إذا ريب الزمان صدعك ... شتت فيك شمله ليجمعك)
(وليس أخي من ودني بلسانه... ولكن أخي من ودني وهو غائب)
(ومن ماله مالي إذا كنت معدما ... ومالي له إن أعوزته النوائب)
وقال أبو تمام:
(من لي بإنسان إذا أغضبته ... وجهلت كان الحلم رد جوابه)
(وإذا صبوت إلى المدام شربت من ... أخلاقه وسكرت من آدابه)
(وتراه يصغي للحديث بطرفه ... وبقلبه ولعله أدرى به)
وقيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أحب إليك؟ فقال: الذي يسد خلتي ويغفر زلتي ويقيل عثرتي. وقيل من لا يؤاخي إلا من لا عيب فيه قلّ صديقه ، ومن لم يرض من صديقه إلا بإيثاره على نفسه دام سخطه. ومن عاتب على كل ذنب ضاع عتبه وكثر تعبه. وقالوا في ذلك:
(ومن لم يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب)
وقال آخر
(إذا كنت في كل الأمور معاتبا ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه)
(وإن أنت لم تشرب مرارا على الأذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه)
وقيل أيضا" إذا رأيت من أخيك أمرا تكرهه أو خلة لا تحبها فلا تقطع حبله ولا تصرم وده ولكن داو كلمته واستر عورته وأبقه وإبرأ من عمله ، وقال الله تعالى (فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون) ، فلم يأمر نبيه بقطعهم وإنما أمره بالبراءة من عملهم السيئ.
وقالوا: ليس سرور يعدل لقاء الإخوان ولا غم يعدل فراقهم. وقالوا: شر الاخوان الواصل في الرخاء الخاذل عند الشدة. وقالوا: إن من الوفاء أن تكون لصديق صديقك صديقا ولعدو صديقك عدوا . وقالوا: ..الحذر من الكريم إذا أهنته واللئيم إذا أكرمته والعاقل إذا أحرجته والأحمق إذا مازحته والفاجر إذا عاشرته. وقالوا: إصحب من الإخوان من أولاك جمائل كثيرة فكافأته بجميلة واحدة فنسي جمائله وبقي شاكرا ناشرا ذاكرا لجميلك يوليك عليه الإحسان الكثير الجزيل ويجعل أنه ما بلغ من مكافأتك القليل.
ما أحوجنا اليوم ، والعلاقات الإجتماعية بين الناس تتفسخ بشكلْ مذهل ، نتيجة لتفشي قيم استهلاكية ، الى تذكّر وإسترجاع بعض من اسس ثقافتنا العربية والإسلامية. علّها تكون واقيا ومصدّا لتخفيف حدة هذا النخر والتآكل: الذي يسري ، في أوصال حياتنا وعلاقاتنا ، كالنار في الهشيم..،؟
مما قرأت